الأحد، 11 أكتوبر 2009

تماما .....
تماما هذا ما فكرتْ به المطبعة: هذه عادتك أيها الإنسان تتنكر دوما لطرقاتك السابقة وتحتفي كعاشق بدروبك الجديدة , أراه على مدى النسيان ,المخزن, لربما المتحف الذي ستلقيني به وسوف يأتي أطفال مع مدرِّسة تتكلم من ميكرفون صغير مثبت لياقتها فيستمعون لها عبر سماعات صغيرة كحبة العدس ملتصقة داخل آذانهم وإذا أرادوا شيئا همسوا في ميكرفوناتهم أيضا , كل هذا لكي لا يتصدع الصمت الباذخ في متحفك أيها الإنسان , آه ما أجمل ذلك الضجيج الذي كانت تخرج من خلاله الأوراق البيضاء بقبلٍ من الحبر.
تماما هذا ما فكر به القلم الملقى على الطاولة: أنا الشاهد على جحودك , كم من الوقت مضى عليّ وأنا أتشهى صفحة بيضاء كاملة يسيل عليها دمي وينقش تلك الحروف التي أعشق رسمها ؟!, أتذكر أجدادي بعمرهم القصير , حيث كان كل واحدا منهم يملأ الكثير من تلك الصفحات بعصارة الفكر ونار العواطف , أما الآن فكثيرا ما تتركني على هذه الطاولة أو إن خطر على بالك أن تفعل بي شيئا تحك رأسك اليابس بجسدي الذي كاد حبره يتجمد ويفسد وتنساني في جيبة قميصك كنوع من الزينة ,آه, لكم أرغب بأن أقطع عروقي وأترك حبري ينساب بهدوء روح تغادر جسدها وأنزع لك هذا القميص الأبيض الذي ليس فيه من الطهر شيء, ببقعة زرقاء تشهد على رفضي هذا المصير الذي رتبته لي , بعدما جلبت هذا التابوت الذي تتأبطه كحانوتي حيثما ذهبت.
تماما هذا ما فكرت به الورقة: لمن كل هذا البياض , لمن أدخره , للغبار , لبراز ذبابة حمقاء ,للصفرة , حيث الزمن يكتب عليّ مروره والرطوبة تشدّني من أطرافي إلى الداخل , فأنكمش كورقة خريف مرعوبة من الريح , وهل سلة المهملات مصيري؟, دون قطرة حبر أتكفن بها ,أنا هنا ؟!, يا من تهجرني , فلولاي , كيف كان لك أن ترسم تلك الحروف بالقبضة الصغيرة , أما الآن وبعد أن كبرت يدك تصافح غيري بأناملك وتتفنن باستخدامك الأصابع العشرة ,فيما كنت اكتفي بثلاثة منها , لو كان لي دم كما القلم لأرقته ولطخت لك هذه الطاولة البائسة مثل نفسيتك يا من تدعي الحضارة.
تماما هذا ما أفكر فيه : غريب أمركم!, فهذه الصخور التي نقشنا عليها حروفنا الأولى تربض بفخر خلف الزجاج المقسى كذلك الألواح الطينية سعيدة بما نقلت لنا من أساطيرنا , أنظري لتلك الجلود فهي لا تحن لتلك المراعي التي اصطدناها منها بل تتباهى بتلك الخطوط كأنها كحل على عين حوراء, وورق البردي صار لوحات تتزين بها مجالسنا , فلا أحد منهم يشكو شكواكم ويتهمنا بأننا قساة ولا نحفظ للزمن الذي بيننا مودة, بل الكل يشكرون لنا, لحفظهم من التلف والدخول في مكنة التراب التي لا ترحم حتى ديدانها, فما بلكم ...؟!.
ابتسم " اللاب توب" في شاشته, بينما أنا أقوم بحفظ الملف واستعد لخيار إغلاق من قائمة "أبدأ" ومن ثم خرجت معلقا على كتفي حقيبة سوداء تحتوي : مطبعة وقلما وورقة .
لا أعرف ما دار في ذهنهم لكني قد أخمن , وقفت قليلا أمام واجهة زجاجية لأجيب على جوالي الذي يرن بنغمة " وحدن بيبقو متل زهر البيلسان" وعين تتشهى تلك المانيكان ذات الفستان الذي ينحسر عن معظم ساقيها البلاستيكيات.
اشتريت الجريدة وعلى صفحتها الأولى المعنونة بِ – قرأت- : الصحافة الورقية إلى أين؟, أضحكني السؤال الاستنكاري , فوضعت الجريدة في حقيبة " اللاب توب " السوداء, مرت بجانبي صبية تلبس الجينز , حدقت بها , فأشاحت بنظرها جانبا , فقلت في سري : لماذا التكبر هذه المانيكان أجملك منك!.
باسم سليمان
تشرين


ليست هناك تعليقات: