الأربعاء، 11 نوفمبر 2009

الشعر يرتدي المريول الأبيض

الشعر يرتدي المريول الأبيض

لا يخرج تعريف الشعر عن سؤال , ما هو الشعر؟, وكأنه يكتفي به دالة ودلالة ويترك الباقي للجواب والممارسة الشعرية التي يقوم بها الشاعر والمتلقي على السواء.
فالشاعر الذي ينبري كمتلقي أول للكون ,يريد أن يفهم صفعة المعرفة الأولى التي ابتدأ بها شهيقه , يغدو طموحه الأقصى في أن يدخل الجملة التشبيهية التالية " الشاعر كالكون" , فيدوّر شعره كالرحى على عصا نفسه صانعا طحين هذه " الكا" التي سيخبز من عجينها خبزا
يطعم به جوع فهمه لتلك الصفعة المعرفية التي ابتدأت بها حياته , وكما الكون يرفض الرتابة والاعتياد اللذين يقودان للموات كذلك الشاعر يرفضهما وهو من أكثر المتألهين الذين يأكلون آلهتهم المصنوعة من تمر الآباء , فالشاعر الحق هو من قتل أباه الشعري ويسلم السكين بكل رضى لابن سيخضب نصلها بدمه.
شاعر اليوم شاعر أثر الفراشة , شاعر لص , يحب أن يتأمل الضجة التي تحدثها سرقته من بعيد أو الصمت الذي يكتنفها عندما يكون إعلان السرقة يكلف أكثر بكثير من قيمة المسروق , لذلك يقف فايز حمدان بمريوله الأبيض لفظا ورسما بالأسود علي ثيمة الغلاف " اضغط على القطنةِ جيدا/ وإذا استطعت / على الزناد".
وفهم صفعة المعرفة لا يكون بأيديولوجيا بل باكتشاف الهوية وبيانها , وهذا لا يكون إلا بالسيرة إن جاز التعبير وهذه الهوية لن تعي ذاتها وكونها مادام هناك حجابا وعمومية تخنق التفصيلي واليومي , فالشاعر ليس نعجة بيضاء في سياق بل هو هذه النعجة التي ترعى لوحدها وتواجه الذئب ببياضها فيصيبه عمى البياض ويفترس بدلا منها عواءه " شوارع دمشق تعرفني/أرصفة ضيقة ودافئة/ وحدي تعرفُني/ معكِ تعرفُني/ ويعرفنا المصعد والمتسكعون."
ونكاد نرى التفصيلي في الحياة يعم المشهد الشعري وهذا يعني : إن الشاعر الذي يكاد ينجرف مع تيار التذويب الذي يمارسه التجمع البشري لا يبقى له إلا أصابعه التي تتمسك بصخرة وجوده , فأنامله العشرة والتي تتفلت واحدة تلو أخرى حتى لا يُترك له سوى إبهام وسبابة ووسطى تمسك بالقلم " أطلّي بعينيكِ/ من نافذة الباص/ وودعي آثارنا/ على طول الرّصيف.", وهذا اليومي التفصيلي هو ما يصنع أنا الشاعر مقابل الأنوات الأخرى التي تغيّب أناها في النحن الذي بدأت تأخذ شكل العولمة لا الكوكبة.
هكذا يُثبت فايز حمدان نفسه بالحاضر من خلال جملة متخففة من جراثيمها البلاغية بكحول يستقطره من مهنة طب الأسنان, البصمة الجديدة في عالم إثبات الهوية ,فدفع بمفردات هذه المهنة التي تثير الفزع في الكثير من النفوس إلى حضن الشعرية , وكأنه بذلك يؤكد قدرة الشعر على إخراج الجمالي من القمم الذي حبسته به الرؤية المسبقة / الأيديولوجيا إلى جمالية التجربة " عصب الرّحى الثالث/ الذي أرهقني/ حتى عثرتُ عليه/ مازالت ذروته حمراء/ والشاب الذي هربتْ حبيبته/ في يوم عادي / هو أيضا / هرب بجسر خزفي/ وثلاثة كاسيتات لفيروز/ / أعطيته الوصفة/ ثم/ أقف بمريول أبيض".
لم تعد ممارسة العادة الشعرية تتم في السر وفي صومعة عالية بل أصبحت التجربة الشعرية الجانب الواقعي من تعريفه متواجدة بقربك كأنها ظل لأنثى تمضي أو رجلا ينتظر معك ركوب السرفيس وهنا يأتي دور التلقي فأما تدير لك الأنثى وجهها وتبتسم أو يدفعك الرجل ليأخذ له مكانا في السرفيس وتبقى تنتظر سرفيسا تأتي به لو.
فايز حمدان لا يجعل ابتسامتك جميلة فقط بل وساخرة لكن بدفء " سينهض الشعراء من قبورهم/ في الجيل القادم/ ويقرأ المتنبي: الجينز والموبايل والسرفيس تذهلني/ والمترو والتلفاز والحاسوب والقمم.
أقف بمريول أبيض ل فايز حمدان صادرة عن دار نينوى2009 دمشق
باسم سليمان
الثورة
Bassem-sso@windowslive.com

الاثنين، 2 نوفمبر 2009

حد الوطن

حد الوطن

هل الوطن حد حتى ندرؤه بالحدود؟ . هل الوطن خطيئة؛ لنحمل وزرها حيثما حللنا ونورثها كأثمن ما نملك أم أن الوطن مساحة الطمأنينة الموعودة من قلق وجودي ,نعرف كنهه ولا نعرف؟! .
" خاتونِة" هي الذاكرة الناهضة في وعي "هوار" , ابن التاريخ المكتوم الذي باحتْ به " خاتونِة" عندما سقطت شبهة الحدود في عينيها وسقطت هي برصاصة من جندي تركي يحرس حدود وطنه بين سوريا وتركيا ؛ليقيم حد وطنه وتقيم هي حد وطنها في وعي " هوار" الذي تتأكله الوحشة وضياع صرخته في إذن الموت الذي لا يسمع أصوات الأحياء.
"خاتونة" الهاربة من مذبحة تطال عائلتها , عائلة الثوري الذي يطالب بوطن للكورد , فيحتمي بعفو ويجند في الجيش التركي ؛ ليرسل إلى كوريا المنقسمة على نفسها , فيأسر عدة جنود من كوريا الشمالية وينال وسام الشجاعة , ليقضى عليه من قبل عصابة بعد عودته, طمعتْ بما جلبه من مال أم أن الأمر يتعدى هذا؟! , أيعني هذا أن الثورة تقتل أولادها الذين يستفيقون من حلمها المستحيل فيهجرونه إلى أرض الواقع؟!.
تحمل السر وتطبق القلب عليه مع طفلين وعنزة وتجتاز الحدود إلى شمال سوريا حيث مسقط الرأس على بعد نظر إلى الشمال, تصبح لهما أما ويغدو المكان الجديد وطنا بديلا أن جاز التعبير , وطنا يمنحهم مساحة للعيش لا مساحة للحلم, يكبر الطفلان في سوق العمر يبيعان ويشتريان ما يُسمى حق التشبث في وطن الواقع ووطن الحلم إلى أن يضرب القدر ضربته , يفترق الأخوان : "محمد أو حمو" يختار العودة لمسقط الرأس بعد أن يأس من التشبث واتساع المسافة بينه وبين أخوه أمّا " علي أو علو" فلا يمهله الزمن ويموت ويترك "هوار" مع " خاتونة" الجدة , الأصل, الوطن.
تقرر " خاتونة" العودة إلى قريتها التابعة ل "ماردين" وهناك يبدأ " هوار" السعي إلى قدره المخبأ على الحدود السورية التركية , يتعرف على عمه وتاريخ شعبه حيث تظهر ماردين من عامودا كمجرة في الجبل الناهض , ترفض " خاتونة " البقاء وتقرر العودة وعلى الحدود وكمن يسري في ليل وطنه تجتاز الحدود من منطقة مخالفة , فلا لغتها الكردية أسعفتها ولا فهمت اللغة التركية التي ينادي الحارس بها , ولأن الحدود لا تعرف شبهة الوطن في العيون أرداها الحارس لينطلق السر في أذن" هوار" وتكتمل دائرة السرد الذي ابتدأ لحظة انفصام الوحدة بين سوريا ومصر.
هيثم حسين يختار لسرده صوت الراوي , وبهذا يكون طابق سرده وفاة" خاتونة/ الوطن" , فالراوي لا يسرد إلا التاريخ وثيمة التاريخ تؤكد الزوال الفعلي للحدث في المكان والزمان مع بقاء أطلاله التي يعلوها " هوار" الذي يعيد تشكيله في الآن ؛ لكنه منطلقا من الماضي ,فيتوافق مع حركة الزمن إلى الأمام وهكذا يتقمصهم جميعا الأجداد و" خاتونة/ الوطن" والعم و" ماردين" وصرخته المدوية التي أومأت : أيموت الوطن بموت" خاتونة" ؟,هذا ما لم يفصح به الراوي بل نطقته أطلال الذكريات التي اعتلاها "هوار" ,فالوطن لا يعيش في الذاكرة التي تكبلها الحدود ؛كلما تلمستْ موطئ قدم لها في الواقع , محا منها شيئا قد يكون بالهجرة والتشتت والموت والنسيان والاعتياد.
رواية" رهائن الخطيئة" تساؤل عن تلك الأوطان التي أكلتها أوطان أخرى بحق أو بدون ولكنها تركت شعوبا مرتهنة لحلم لا يتحقق ولواقع يصعب التأقلم معه مادامت الذاكرة حية تفيض بالعواطف كلما هطل مطر الانتماء .
الروائي هيثم حسين أمات" خاتونة/ الوطن" في نهاية روايته , أتراه قد مكر ب" هوار" إذ حمله إرث" خاتونة" أم أنه فتح عيني " هوار" على حقيقة مؤلمة نعيشها جميعا؟, أن أوطاننا الواقعية والمحلوم بها قد جعلت الإنسان يدفع الكثير من آلامه أمام نرجسيتها والوطن الوحيد الذي يجب أن يولد على أرض الواقع هو الإنسانية جمعاء وطن يجمعها ولا يقدمها أضاحي كما تفعل تلك الأوطان الكثيرة التي تملأ الكرة الأرضية بالحدود.
رواية " رهائن الخطيئة" ل هيثم حسين صادرة عن دار التكوين دمشق 2009
باسم سليمان
العرب اون لاين
Bassem-sso@windowslive.com