الشعر يرتدي المريول الأبيض
لا يخرج تعريف الشعر عن سؤال , ما هو الشعر؟, وكأنه يكتفي به دالة ودلالة ويترك الباقي للجواب والممارسة الشعرية التي يقوم بها الشاعر والمتلقي على السواء.
فالشاعر الذي ينبري كمتلقي أول للكون ,يريد أن يفهم صفعة المعرفة الأولى التي ابتدأ بها شهيقه , يغدو طموحه الأقصى في أن يدخل الجملة التشبيهية التالية " الشاعر كالكون" , فيدوّر شعره كالرحى على عصا نفسه صانعا طحين هذه " الكا" التي سيخبز من عجينها خبزا
يطعم به جوع فهمه لتلك الصفعة المعرفية التي ابتدأت بها حياته , وكما الكون يرفض الرتابة والاعتياد اللذين يقودان للموات كذلك الشاعر يرفضهما وهو من أكثر المتألهين الذين يأكلون آلهتهم المصنوعة من تمر الآباء , فالشاعر الحق هو من قتل أباه الشعري ويسلم السكين بكل رضى لابن سيخضب نصلها بدمه.
شاعر اليوم شاعر أثر الفراشة , شاعر لص , يحب أن يتأمل الضجة التي تحدثها سرقته من بعيد أو الصمت الذي يكتنفها عندما يكون إعلان السرقة يكلف أكثر بكثير من قيمة المسروق , لذلك يقف فايز حمدان بمريوله الأبيض لفظا ورسما بالأسود علي ثيمة الغلاف " اضغط على القطنةِ جيدا/ وإذا استطعت / على الزناد".
وفهم صفعة المعرفة لا يكون بأيديولوجيا بل باكتشاف الهوية وبيانها , وهذا لا يكون إلا بالسيرة إن جاز التعبير وهذه الهوية لن تعي ذاتها وكونها مادام هناك حجابا وعمومية تخنق التفصيلي واليومي , فالشاعر ليس نعجة بيضاء في سياق بل هو هذه النعجة التي ترعى لوحدها وتواجه الذئب ببياضها فيصيبه عمى البياض ويفترس بدلا منها عواءه " شوارع دمشق تعرفني/أرصفة ضيقة ودافئة/ وحدي تعرفُني/ معكِ تعرفُني/ ويعرفنا المصعد والمتسكعون."
ونكاد نرى التفصيلي في الحياة يعم المشهد الشعري وهذا يعني : إن الشاعر الذي يكاد ينجرف مع تيار التذويب الذي يمارسه التجمع البشري لا يبقى له إلا أصابعه التي تتمسك بصخرة وجوده , فأنامله العشرة والتي تتفلت واحدة تلو أخرى حتى لا يُترك له سوى إبهام وسبابة ووسطى تمسك بالقلم " أطلّي بعينيكِ/ من نافذة الباص/ وودعي آثارنا/ على طول الرّصيف.", وهذا اليومي التفصيلي هو ما يصنع أنا الشاعر مقابل الأنوات الأخرى التي تغيّب أناها في النحن الذي بدأت تأخذ شكل العولمة لا الكوكبة.
هكذا يُثبت فايز حمدان نفسه بالحاضر من خلال جملة متخففة من جراثيمها البلاغية بكحول يستقطره من مهنة طب الأسنان, البصمة الجديدة في عالم إثبات الهوية ,فدفع بمفردات هذه المهنة التي تثير الفزع في الكثير من النفوس إلى حضن الشعرية , وكأنه بذلك يؤكد قدرة الشعر على إخراج الجمالي من القمم الذي حبسته به الرؤية المسبقة / الأيديولوجيا إلى جمالية التجربة " عصب الرّحى الثالث/ الذي أرهقني/ حتى عثرتُ عليه/ مازالت ذروته حمراء/ والشاب الذي هربتْ حبيبته/ في يوم عادي / هو أيضا / هرب بجسر خزفي/ وثلاثة كاسيتات لفيروز/ / أعطيته الوصفة/ ثم/ أقف بمريول أبيض".
لم تعد ممارسة العادة الشعرية تتم في السر وفي صومعة عالية بل أصبحت التجربة الشعرية الجانب الواقعي من تعريفه متواجدة بقربك كأنها ظل لأنثى تمضي أو رجلا ينتظر معك ركوب السرفيس وهنا يأتي دور التلقي فأما تدير لك الأنثى وجهها وتبتسم أو يدفعك الرجل ليأخذ له مكانا في السرفيس وتبقى تنتظر سرفيسا تأتي به لو.
فايز حمدان لا يجعل ابتسامتك جميلة فقط بل وساخرة لكن بدفء " سينهض الشعراء من قبورهم/ في الجيل القادم/ ويقرأ المتنبي: الجينز والموبايل والسرفيس تذهلني/ والمترو والتلفاز والحاسوب والقمم.
أقف بمريول أبيض ل فايز حمدان صادرة عن دار نينوى2009 دمشق
باسم سليمان
الثورة
Bassem-sso@windowslive.com
لا يخرج تعريف الشعر عن سؤال , ما هو الشعر؟, وكأنه يكتفي به دالة ودلالة ويترك الباقي للجواب والممارسة الشعرية التي يقوم بها الشاعر والمتلقي على السواء.
فالشاعر الذي ينبري كمتلقي أول للكون ,يريد أن يفهم صفعة المعرفة الأولى التي ابتدأ بها شهيقه , يغدو طموحه الأقصى في أن يدخل الجملة التشبيهية التالية " الشاعر كالكون" , فيدوّر شعره كالرحى على عصا نفسه صانعا طحين هذه " الكا" التي سيخبز من عجينها خبزا
يطعم به جوع فهمه لتلك الصفعة المعرفية التي ابتدأت بها حياته , وكما الكون يرفض الرتابة والاعتياد اللذين يقودان للموات كذلك الشاعر يرفضهما وهو من أكثر المتألهين الذين يأكلون آلهتهم المصنوعة من تمر الآباء , فالشاعر الحق هو من قتل أباه الشعري ويسلم السكين بكل رضى لابن سيخضب نصلها بدمه.
شاعر اليوم شاعر أثر الفراشة , شاعر لص , يحب أن يتأمل الضجة التي تحدثها سرقته من بعيد أو الصمت الذي يكتنفها عندما يكون إعلان السرقة يكلف أكثر بكثير من قيمة المسروق , لذلك يقف فايز حمدان بمريوله الأبيض لفظا ورسما بالأسود علي ثيمة الغلاف " اضغط على القطنةِ جيدا/ وإذا استطعت / على الزناد".
وفهم صفعة المعرفة لا يكون بأيديولوجيا بل باكتشاف الهوية وبيانها , وهذا لا يكون إلا بالسيرة إن جاز التعبير وهذه الهوية لن تعي ذاتها وكونها مادام هناك حجابا وعمومية تخنق التفصيلي واليومي , فالشاعر ليس نعجة بيضاء في سياق بل هو هذه النعجة التي ترعى لوحدها وتواجه الذئب ببياضها فيصيبه عمى البياض ويفترس بدلا منها عواءه " شوارع دمشق تعرفني/أرصفة ضيقة ودافئة/ وحدي تعرفُني/ معكِ تعرفُني/ ويعرفنا المصعد والمتسكعون."
ونكاد نرى التفصيلي في الحياة يعم المشهد الشعري وهذا يعني : إن الشاعر الذي يكاد ينجرف مع تيار التذويب الذي يمارسه التجمع البشري لا يبقى له إلا أصابعه التي تتمسك بصخرة وجوده , فأنامله العشرة والتي تتفلت واحدة تلو أخرى حتى لا يُترك له سوى إبهام وسبابة ووسطى تمسك بالقلم " أطلّي بعينيكِ/ من نافذة الباص/ وودعي آثارنا/ على طول الرّصيف.", وهذا اليومي التفصيلي هو ما يصنع أنا الشاعر مقابل الأنوات الأخرى التي تغيّب أناها في النحن الذي بدأت تأخذ شكل العولمة لا الكوكبة.
هكذا يُثبت فايز حمدان نفسه بالحاضر من خلال جملة متخففة من جراثيمها البلاغية بكحول يستقطره من مهنة طب الأسنان, البصمة الجديدة في عالم إثبات الهوية ,فدفع بمفردات هذه المهنة التي تثير الفزع في الكثير من النفوس إلى حضن الشعرية , وكأنه بذلك يؤكد قدرة الشعر على إخراج الجمالي من القمم الذي حبسته به الرؤية المسبقة / الأيديولوجيا إلى جمالية التجربة " عصب الرّحى الثالث/ الذي أرهقني/ حتى عثرتُ عليه/ مازالت ذروته حمراء/ والشاب الذي هربتْ حبيبته/ في يوم عادي / هو أيضا / هرب بجسر خزفي/ وثلاثة كاسيتات لفيروز/ / أعطيته الوصفة/ ثم/ أقف بمريول أبيض".
لم تعد ممارسة العادة الشعرية تتم في السر وفي صومعة عالية بل أصبحت التجربة الشعرية الجانب الواقعي من تعريفه متواجدة بقربك كأنها ظل لأنثى تمضي أو رجلا ينتظر معك ركوب السرفيس وهنا يأتي دور التلقي فأما تدير لك الأنثى وجهها وتبتسم أو يدفعك الرجل ليأخذ له مكانا في السرفيس وتبقى تنتظر سرفيسا تأتي به لو.
فايز حمدان لا يجعل ابتسامتك جميلة فقط بل وساخرة لكن بدفء " سينهض الشعراء من قبورهم/ في الجيل القادم/ ويقرأ المتنبي: الجينز والموبايل والسرفيس تذهلني/ والمترو والتلفاز والحاسوب والقمم.
أقف بمريول أبيض ل فايز حمدان صادرة عن دار نينوى2009 دمشق
باسم سليمان
الثورة
Bassem-sso@windowslive.com